Page 110 - منصف-الوهايبي
P. 110
***
ولئن كان استرجاع المكان استعارة لاسترجاع الماضي ي ّتخذ
شكل تهويم ،فإ ّنه ي ّتخذ أيضا شكل حفر أركيولوج ّي؛ والحفر
الأركيولوج ّي هاهنا تجسيد لهيئة لل ّشاعر تتو ّلى تحويل المكان إلى
حقل من الاستكشاف ال ّزمن ّي مو ّجه نحو الماضي .فإذا بال ّشاعر
وهو يكتب المكان ويس ّميه إ ّنما يقوم بتلك الحركة المزدوجة التي
يس ّميها جيل دولوز الل ّاأرضنة Déterritorialisationوالأرضنة
،Territorialisationوهي فعل زمان ّي في المكان مزدوج يتح ّول
بموجبه المجال من مكان إلى زمان من حيث هو ُينقل من سياق
مرجع ّي موضوع ّي إلى سياق تص ّوري إنشائ ّي .وهذا ال ّزمان ال ّشعر ّي
له مكان لا يعدو أن يكون غير الأسلوب حيث تغدو القصيدة عندئذ
هي الفضاء ال ّشخص ّي .هكذا يمكن أن نقول بأ ّن تسمية المكان
باسمه المتداول ليست من قبيل العناوين التي ُتكتب على مظاريف
ال ّرسائل ،وإ ّنما هي إجراء يكون بموجبه المكان المرجع ّي مصاغا
في أسلوب ،أكان منقولا ضمن حركة ال ّتذ ّكر أو ُمستو َهما ضمن
حركة الحلم .هكذا يستحيل الفضاء إذن مكانا للقصيدة ح ّتى وإن
كان إسقاطا عاطف ّيا للذاكرة ،ح ّتى وإن فضاء مشحونا بذكريات
وتواريخ ذات صلة بالأمكنة .ذلك أ ّن الذاكرة ال ّشعر ّية تضاعف
المسافة ح ّتى تح ّوله إلى فضاء داخل ّي ،إلى طوبوغرافيا سحر ّية
تحتضن مشاهد من مسارح ال ّطفولة .ولا يتع ّلق الأمر بطفولة ال ّشاعر
فقط وإ ّنما بطفولة البشر ّية على نحو ما تبين عن ذلك مقاطع كثيرة
من كتابه ال ّشعر ّي ال ّسور ّيون ...
110